مفهوم التقديم والتأخير
صفحة 1 من اصل 1
مفهوم التقديم والتأخير
مفهوم
التقديم والتأخير :
يراد
بالتقديم والتأخير أن تخالف عناصر التركيب ترتيبها الأصليّ في السياق فيتقدَّم ما
الأصل فيه أن يتأخَّر ويتأخَّر ما الأصل فيه أن يتقدَّم .
والحاكم
للترتيب الأصليّ بين عنصرين يختلف إذا كان الترتيب لازمًا أو غير لازم ، فهو في
الترتيب اللازم ( الرتبة المحفوظة ) حاكمٌ صناعيٌّ نحويّ ، أمَّا في غير اللازم (
الرتبة غير المحفوظة ) فيكاد يكون شيئًا غير محدَّد ، ولكن توجد بعض الأسباب
العامَّة الَّتي قد تفسِّر الترتيب الأصليّ – بنوعيه - بين عنصرين ، وهي مختلفة في
اعتباراتها ، فمنها ما اعتباره معنويّ ، ومنها ما اعتباره لفظيّ ، أو منطقيّ ، أو
صناعيّ ، ومن أهمّ هذه الأسباب :
1-
أن تكون العلاقة بين العنصرين علاقة المحكوم عليه بالحكم ، فمقتضى الأصل أن
يتقدَّم المحكوم عليه ويتأخَّر الحكم ، كتقدُّم المبتدإ على الخبر .
2-
أن تكون العلاقة بينهما علاقة العامل بالمعمول ، فمقتضى الأصل أن يتقدَّم العامل
ويتأخَّر المعمول ، كتقدُّم الفعل على المفعول .
3-
أن تكون العلاقة بينهما علاقة المقدِّمة بالنتيجة ، فمقتضى الأصل أن تتقدَّم
المقدِّمة وتتأخَّر النتيجة ، كتقدُّم فعل الشرط على جواب الشرط .
4-
أن تكون العلاقة بينهما علاقة الكلِّ بالجزء المقتطَع منه ، فمقتضى الأصل أن
يتقدَّم الكلُّ ويتأخَّر الجزء ، كتقدُّم المُستثنى منه على المُستثنى .
5-
أن يكون تقدُّم عنصرٍ ضروريًّا لحفظ تقسـيمٍ معلوم من اللغة بالضرورة ، كتقدُّم
الفعل على الفاعل ؛ لما عُلم من وجود جملة فعليَّة تقف جنبًا إلى جنب مع الجملة
الاسميَّة مكوِّنةً معها أساسًا ثنائيًّا لورود الجمل .
وللتقديم
والتأخير علَّة هي الرتبة ، فالرتبة مبدأٌ نحـويٌّ لولاه لم يكن ثَمَّ تقديمٌ ولا
تأخير ، فما الرتبة ؟ وما أنواعها ؟
الرتبة
قرينةٌ نحويَّةٌ من قرائن المعنى ، يمكن تعريفها بأنَّها جزءٌ من النظام النحويِّ
" يحدِّد موقع الكلمة من بناء الجملة " ويفرض لكلمتين بينهما ارتباط أن
تأتي إحداهما أوَّلاً والأخرى ثانيًا ، ويمتنع العكس إذا كانت الرتبة محفوظة ،
أمَّا إذا كانت الرتبة غير محفوظة فيجوز أن تتقدَّم إحدى الكلمتين في تعبيرٍ
وتتأخَّر في تعبيرٍ آخر من غير اتِّصاف أحد التعبيرين بالخطأ النحويِّ .
هناك
تجاذبٌ بين الرتبة والإعراب ، فالرتبة في اللغات غير الإعرابيَّة تُحدِّد الوظيفة
التركيبيَّة لأجزاء الجملة ، أمَّا في اللغات الإعرابيَّة فتظهر مرونة الرتبة
وإتاحتها حرِّيَّة الحركة لتلك الأجـزاء ؛بسـبب تكفُّل الإعـراب بتحديد الوظيفة
التركيبيَّة لها ، فإذا خفي الإعراب انتفى ذلك ووجب الالتزام بالرتبة .
والفرق
بين الرتبة المحفوظة وغير المحفوظة أنَّ الترتيب السياقيَّ للكلمات في حالة الرتبة
المحفوظة يُراعى في نظام اللغة وفي الاستعمال ، ولا يقع خلافه إلاَّ موصوفًا
بالخطأ النحويِّ ، أمَّا في حالة الرتبة غير المحفوظة فترتيب الكلمات في السياق
أصلٌ افتراضيٌّ اتَّخذه النظام النحويُّ ، وقد يُحتِّم الاستعمال – حسب المقام
والغرض – خلافه بتقديم المتأخِّر .
ويُوصَف
العنصر المتقدِّم في الرتبة المحفوظة بأنَّه متقدِّم وجوبًا - ومن ذلك تقدُّم
الموصـول على الصلة ، والموصـوف على الصـفة ، وحرف الجرِّ على المجرور ، وغيرها–
أمَّا في الرتبة غير المحفوظـة – كالَّتي بين المبتدإ والخبر ، والفاعل والمفعـول
به ، والضمير والمرجع ، وغير ذلك – فالتقديم والتأخير اختيارٌ أسـلوبيٌّ جائزٌ
للمتكلِّم بحسـب ما يعبِّر عن غرضه ويُفهِم معناه المقصود .
وقد
يُلغى هذا الاخـتيار وتُحـفَظ الرتبة ؛ إمَّا لاتِّقاء لبس ، كما في ( ضرب موسى
عيسى ) ، أو لاتِّقاء مخالفة القاعدة ، كما في ( رأيتُكَ ) ، فانتقال الرتبة من
دائرة الرتبة غير المحفوظة إلى دائرة الرتبة المحفوظة أمرٌ وارد .
والفرق
بين الرتبة المحفوظة والرتبة غير المحفوظة هو عينه الفرق بين الواجب والجائز في
النحو ؛ فالتقديم في الرتبة المحفوظة حكمٌ تركيبيٌّ نحويٌّ صِرف لا مجال فيه
لاختيار المتكلِّم ، فهو إمَّا جارٍ على القاعدة بحفظها ، أو مخالفٌ للقاعدة مخلٌّ
بسلامة التركيب بإهماله لها ، أمَّا الرتبة غير المحفوظة فالتقديم فيها أمرٌ
اختياريٌّ يمكِّن من التصرُّف في العبارة ؛ لأنَّه يصبح وسيلة أسلوبيَّة تُستجلب
بها المعاني وتُقلَّب العبارة لتناسب مقتضى الحال ، ولهذا دار البحث البلاغيُّ في
علم المعاني حول الرتبة غير المحفوظة .
مخالفة
الأصل فيهما :
ينطلق
الحـديث عن التقـديم والتأخير من منطلـق الرتبة الَّتي منها – كما أسلفت – رتبة
محفوظة لا تُخالَف إلاَّ خطأً وانحرافًا عن النظام السياقيِّ ، ورتبة غير محفوظة
قد تُراعَى وقد لا تُراعَى .
والترتيب
الَّذي جعله النظام النحويُّ أصلاً في الرتبة غير المحفوظة لا يُسأل عن علَّته في
غالب الأحيان ، وإنَّما يُسأل عمَّا جاء على خلافه : لمَ خالف ؟ وما الغاية من
الخلاف ؟
فالتقديم
والتأخير نوعٌ من التصرُّف في التركيب والعدول عن أصل ترتيب عناصره لغاية بيانيَّة
معنويَّة ، وهذا التصرُّف لا يكون اعتباطًا لغير علَّة وإلاَّ كان جورًا على
التركيب ومعناه وإفسادًا للكلام بأسره .
حاصل
القول في ظاهرة التقديم والتأخير ( الجائز ) أنَّها تفتقر إلى أمور :
الأوَّل
: تحديد الأصل في ترتيب عناصر التركيب .
الثاني
: تحديد العدول عن الأصل في هذا الترتيب .
الآخر
: البحث عن علَّة هذا العدول وتأثيره في المعنى والدلالة .
أغراض
التقديم :
للتقديم
أغراض متعدِّدة متنوِّعة ، يتعيَّن أحدها بحسب العنصر المقدَّم ، وبحسب المقامات
والأحوال ، إلاَّ أنَّ الغرض الأوَّل من تقديم عنصرٍ ما هو كون ذكره أهمّ من ذكر
باقي أجزاء الكلام ، والعناية به أكثر من العناية بذكر غيره ، وهو ما عبَّر عنه
سيبويه بقوله في الفاعل والمفعول : " ... يقدِّمون الَّذي بيانه أهمُّ لهم وهم
ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعًا يُهِمَّانهم ويعنيانهم " ، وجعله الإمام عبد
القاهر قاعدةً للتقديم بقوله : " ... لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئًا يجري مجرى
الأصل غير العناية والاهتمام " ، إلاَّ أنَّه أكَّد أنَّ الاقتصار على
العناية والاهتمام لا يكفي لبيان سبب تقديم لفظٍ ما ، بل يجب أن يُفسَّر وجه
العناية فيه وسبب أهمِّيَّته الَّتي جعلته يتقدَّم في حين تأخَّر غيره .
ما
دام القول بالعناية وحدها لا يكفي فقد ذكر العلماء من الأغراض ما يُعدُّ وجوهًا
لهذه العناية ؛ ففيها تفسيرٌ لها وتعليل ، وليس فيها حجرٌ على غيرها من الأغراض ؛
فلكلِّ سياقٍ خواصُّه ، ولكلِّ تقديمٍ أسراره .
وممَّا
ذكروه من أغراض تقديم الخبر المفرد على المبتدإ :
1-
التخصيص ، كأن يقول أحد : زيد إمَّا قائم أو قاعد ، " فيردِّده بين القيام
والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما " ، فالردُّ عليه يكون بتقديم الخبر لتخصيص
المبتدإ به ، فيقال : قائمٌ هو
2-
الافتخار ، نحو : " تميميٌّ أنا " ، فتقديم الخبر هنا " يُفهَم منه
معنى لا يُفهَم بتأخيره " ، وهو الافتخار – أو غيره كالتخصيص في مقام آخر –
فيجب التقديم مراعاةً للمعنى والغرض .
3-
التفاؤل أو التشاؤم ، مثل : ناجحٌ زيدٌ ، ومقتولٌ إبراهيم .
من
أغراض تقديم الخبر الظرف والجارّ والمجرور :
1-
الاختصاص ، نحو قول الله تعالى : ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَـهُ الْحَمْدُ ﴾ ، فالغرض
من التقديم هنا بيان " اختصاص الملك والحمد بالله عزَّ وجلَّ " لا بغيره
.
ويجب
التنبيه هنا إلى أنَّ التقديم للاختصاص ليس مقصورًا على كون المقدَّم ظرفًا
والمؤخَّر مبتدأ ؛ فقد " كاد أهل البيان يُطبقون على أنَّ تقديم المعمول يفيد
الحصر ، سـواء كان مفعـولاً أو ظرفًا أو مجرورًا ، ولهذا قيل في ﴿ إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ : معناه : نخصُّك بالعبادة والاستعانة " .
2-
التنبيه من أوَّل الأمر على أنَّ الظرف خبرٌ لا نعت ، كما في قول الشاعر :
له
هـممٌ لا منتهى لكبارها وهمَّته الصغرى أجلُّ من الدهر
فإنَّه
" لو أخَّر فقال : هممٌ له ، لتُوُهِّم أنَّه صفة " ، فقدَّم الخبر
للتنبيه وإزالة الوهم .
ولتقديم
المبتدإ على الفعل أغراض كثيرة ، منها :
1-
التخصيص بالخبر الفعليِّ ، نحو : أنا سعيتُ في حاجتك ؛ لإفادة الانفراد بالسعي
وعدم الشركة فيه .2- تحقيق الأمر وإزالة الشكِّ ، نحو : هو يعطي الجزيل ، فليس
الغرض هنا ادِّعاء اختصـاصه بذلك دون غيره ، وإنَّما الغرض تأكيد المعنى في نفس
السامع .
3-
تعجيل مسـرَّة السامع أو مسـاءته ، نحو : خليلك عاد من السفر ، ونحو : الكئيب
يزورك اليوم .
وغير
ذلك من الأغراض ممَّا سيأتي مفصَّلاً في موضعه .
قيمة
التقديم والتأخير :
ظاهرة
التقديم والتأخير – شـأن الظواهر السـياقيَّة الأخرى كالحذف والزيادة وغيرها –
مظهرٌ من مظاهر شجاعة العربيَّة ؛ ففيها إقدام على مخالفة لقرينة من قرائن المعنى
من غير خشـية لبس ، اعتمادًا على قرائن أخرى ، ووصولاً بالعبارة إلى دلالاتٍ
وفوائد تجعلها عبارةً راقيةً ذات رونقٍ وجمال .
والقيمة
البيانيَّة للتقديم والتأخير مرتبطةٌ بالجائز منه ، ومرهونةٌ بحسن استعماله على
وفق مقتضى الحال ، والوعي باستعماله في موضعه ، وإلاَّ كان عبثًا لا قيمة له ولا
فائدة بل ربَّما يؤدِّي إلى إفساد المعنى .
والأغراض
الَّتي تتفتَّق عنها ظاهـرة التقديم تبيِّن ثراءها وكثرة فوائـدها ، وكونها منبعًا
ثرًّا لرقيِّ الأساليب وارتفاعها في البيان .
فلا
عجب حين نرى احتفاء الإمام عبد القاهر الجرجاني بهذه الظاهرة في قوله عن بابها :
" هو بابٌ كثير الفوائد ، جمُّ المحاسن ، واسع التصرُّف ، بعيد الغاية ، لا
يزال يفترُّ لك عن بديعة ، ويفضي بك إلى لطيفة ، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعُه
، ويَلطُف لديك موقعُه ، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ
وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان " .
التقديم والتأخير :
يراد
بالتقديم والتأخير أن تخالف عناصر التركيب ترتيبها الأصليّ في السياق فيتقدَّم ما
الأصل فيه أن يتأخَّر ويتأخَّر ما الأصل فيه أن يتقدَّم .
والحاكم
للترتيب الأصليّ بين عنصرين يختلف إذا كان الترتيب لازمًا أو غير لازم ، فهو في
الترتيب اللازم ( الرتبة المحفوظة ) حاكمٌ صناعيٌّ نحويّ ، أمَّا في غير اللازم (
الرتبة غير المحفوظة ) فيكاد يكون شيئًا غير محدَّد ، ولكن توجد بعض الأسباب
العامَّة الَّتي قد تفسِّر الترتيب الأصليّ – بنوعيه - بين عنصرين ، وهي مختلفة في
اعتباراتها ، فمنها ما اعتباره معنويّ ، ومنها ما اعتباره لفظيّ ، أو منطقيّ ، أو
صناعيّ ، ومن أهمّ هذه الأسباب :
1-
أن تكون العلاقة بين العنصرين علاقة المحكوم عليه بالحكم ، فمقتضى الأصل أن
يتقدَّم المحكوم عليه ويتأخَّر الحكم ، كتقدُّم المبتدإ على الخبر .
2-
أن تكون العلاقة بينهما علاقة العامل بالمعمول ، فمقتضى الأصل أن يتقدَّم العامل
ويتأخَّر المعمول ، كتقدُّم الفعل على المفعول .
3-
أن تكون العلاقة بينهما علاقة المقدِّمة بالنتيجة ، فمقتضى الأصل أن تتقدَّم
المقدِّمة وتتأخَّر النتيجة ، كتقدُّم فعل الشرط على جواب الشرط .
4-
أن تكون العلاقة بينهما علاقة الكلِّ بالجزء المقتطَع منه ، فمقتضى الأصل أن
يتقدَّم الكلُّ ويتأخَّر الجزء ، كتقدُّم المُستثنى منه على المُستثنى .
5-
أن يكون تقدُّم عنصرٍ ضروريًّا لحفظ تقسـيمٍ معلوم من اللغة بالضرورة ، كتقدُّم
الفعل على الفاعل ؛ لما عُلم من وجود جملة فعليَّة تقف جنبًا إلى جنب مع الجملة
الاسميَّة مكوِّنةً معها أساسًا ثنائيًّا لورود الجمل .
وللتقديم
والتأخير علَّة هي الرتبة ، فالرتبة مبدأٌ نحـويٌّ لولاه لم يكن ثَمَّ تقديمٌ ولا
تأخير ، فما الرتبة ؟ وما أنواعها ؟
الرتبة
قرينةٌ نحويَّةٌ من قرائن المعنى ، يمكن تعريفها بأنَّها جزءٌ من النظام النحويِّ
" يحدِّد موقع الكلمة من بناء الجملة " ويفرض لكلمتين بينهما ارتباط أن
تأتي إحداهما أوَّلاً والأخرى ثانيًا ، ويمتنع العكس إذا كانت الرتبة محفوظة ،
أمَّا إذا كانت الرتبة غير محفوظة فيجوز أن تتقدَّم إحدى الكلمتين في تعبيرٍ
وتتأخَّر في تعبيرٍ آخر من غير اتِّصاف أحد التعبيرين بالخطأ النحويِّ .
هناك
تجاذبٌ بين الرتبة والإعراب ، فالرتبة في اللغات غير الإعرابيَّة تُحدِّد الوظيفة
التركيبيَّة لأجزاء الجملة ، أمَّا في اللغات الإعرابيَّة فتظهر مرونة الرتبة
وإتاحتها حرِّيَّة الحركة لتلك الأجـزاء ؛بسـبب تكفُّل الإعـراب بتحديد الوظيفة
التركيبيَّة لها ، فإذا خفي الإعراب انتفى ذلك ووجب الالتزام بالرتبة .
والفرق
بين الرتبة المحفوظة وغير المحفوظة أنَّ الترتيب السياقيَّ للكلمات في حالة الرتبة
المحفوظة يُراعى في نظام اللغة وفي الاستعمال ، ولا يقع خلافه إلاَّ موصوفًا
بالخطأ النحويِّ ، أمَّا في حالة الرتبة غير المحفوظة فترتيب الكلمات في السياق
أصلٌ افتراضيٌّ اتَّخذه النظام النحويُّ ، وقد يُحتِّم الاستعمال – حسب المقام
والغرض – خلافه بتقديم المتأخِّر .
ويُوصَف
العنصر المتقدِّم في الرتبة المحفوظة بأنَّه متقدِّم وجوبًا - ومن ذلك تقدُّم
الموصـول على الصلة ، والموصـوف على الصـفة ، وحرف الجرِّ على المجرور ، وغيرها–
أمَّا في الرتبة غير المحفوظـة – كالَّتي بين المبتدإ والخبر ، والفاعل والمفعـول
به ، والضمير والمرجع ، وغير ذلك – فالتقديم والتأخير اختيارٌ أسـلوبيٌّ جائزٌ
للمتكلِّم بحسـب ما يعبِّر عن غرضه ويُفهِم معناه المقصود .
وقد
يُلغى هذا الاخـتيار وتُحـفَظ الرتبة ؛ إمَّا لاتِّقاء لبس ، كما في ( ضرب موسى
عيسى ) ، أو لاتِّقاء مخالفة القاعدة ، كما في ( رأيتُكَ ) ، فانتقال الرتبة من
دائرة الرتبة غير المحفوظة إلى دائرة الرتبة المحفوظة أمرٌ وارد .
والفرق
بين الرتبة المحفوظة والرتبة غير المحفوظة هو عينه الفرق بين الواجب والجائز في
النحو ؛ فالتقديم في الرتبة المحفوظة حكمٌ تركيبيٌّ نحويٌّ صِرف لا مجال فيه
لاختيار المتكلِّم ، فهو إمَّا جارٍ على القاعدة بحفظها ، أو مخالفٌ للقاعدة مخلٌّ
بسلامة التركيب بإهماله لها ، أمَّا الرتبة غير المحفوظة فالتقديم فيها أمرٌ
اختياريٌّ يمكِّن من التصرُّف في العبارة ؛ لأنَّه يصبح وسيلة أسلوبيَّة تُستجلب
بها المعاني وتُقلَّب العبارة لتناسب مقتضى الحال ، ولهذا دار البحث البلاغيُّ في
علم المعاني حول الرتبة غير المحفوظة .
مخالفة
الأصل فيهما :
ينطلق
الحـديث عن التقـديم والتأخير من منطلـق الرتبة الَّتي منها – كما أسلفت – رتبة
محفوظة لا تُخالَف إلاَّ خطأً وانحرافًا عن النظام السياقيِّ ، ورتبة غير محفوظة
قد تُراعَى وقد لا تُراعَى .
والترتيب
الَّذي جعله النظام النحويُّ أصلاً في الرتبة غير المحفوظة لا يُسأل عن علَّته في
غالب الأحيان ، وإنَّما يُسأل عمَّا جاء على خلافه : لمَ خالف ؟ وما الغاية من
الخلاف ؟
فالتقديم
والتأخير نوعٌ من التصرُّف في التركيب والعدول عن أصل ترتيب عناصره لغاية بيانيَّة
معنويَّة ، وهذا التصرُّف لا يكون اعتباطًا لغير علَّة وإلاَّ كان جورًا على
التركيب ومعناه وإفسادًا للكلام بأسره .
حاصل
القول في ظاهرة التقديم والتأخير ( الجائز ) أنَّها تفتقر إلى أمور :
الأوَّل
: تحديد الأصل في ترتيب عناصر التركيب .
الثاني
: تحديد العدول عن الأصل في هذا الترتيب .
الآخر
: البحث عن علَّة هذا العدول وتأثيره في المعنى والدلالة .
أغراض
التقديم :
للتقديم
أغراض متعدِّدة متنوِّعة ، يتعيَّن أحدها بحسب العنصر المقدَّم ، وبحسب المقامات
والأحوال ، إلاَّ أنَّ الغرض الأوَّل من تقديم عنصرٍ ما هو كون ذكره أهمّ من ذكر
باقي أجزاء الكلام ، والعناية به أكثر من العناية بذكر غيره ، وهو ما عبَّر عنه
سيبويه بقوله في الفاعل والمفعول : " ... يقدِّمون الَّذي بيانه أهمُّ لهم وهم
ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعًا يُهِمَّانهم ويعنيانهم " ، وجعله الإمام عبد
القاهر قاعدةً للتقديم بقوله : " ... لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئًا يجري مجرى
الأصل غير العناية والاهتمام " ، إلاَّ أنَّه أكَّد أنَّ الاقتصار على
العناية والاهتمام لا يكفي لبيان سبب تقديم لفظٍ ما ، بل يجب أن يُفسَّر وجه
العناية فيه وسبب أهمِّيَّته الَّتي جعلته يتقدَّم في حين تأخَّر غيره .
ما
دام القول بالعناية وحدها لا يكفي فقد ذكر العلماء من الأغراض ما يُعدُّ وجوهًا
لهذه العناية ؛ ففيها تفسيرٌ لها وتعليل ، وليس فيها حجرٌ على غيرها من الأغراض ؛
فلكلِّ سياقٍ خواصُّه ، ولكلِّ تقديمٍ أسراره .
وممَّا
ذكروه من أغراض تقديم الخبر المفرد على المبتدإ :
1-
التخصيص ، كأن يقول أحد : زيد إمَّا قائم أو قاعد ، " فيردِّده بين القيام
والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما " ، فالردُّ عليه يكون بتقديم الخبر لتخصيص
المبتدإ به ، فيقال : قائمٌ هو
2-
الافتخار ، نحو : " تميميٌّ أنا " ، فتقديم الخبر هنا " يُفهَم منه
معنى لا يُفهَم بتأخيره " ، وهو الافتخار – أو غيره كالتخصيص في مقام آخر –
فيجب التقديم مراعاةً للمعنى والغرض .
3-
التفاؤل أو التشاؤم ، مثل : ناجحٌ زيدٌ ، ومقتولٌ إبراهيم .
من
أغراض تقديم الخبر الظرف والجارّ والمجرور :
1-
الاختصاص ، نحو قول الله تعالى : ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَـهُ الْحَمْدُ ﴾ ، فالغرض
من التقديم هنا بيان " اختصاص الملك والحمد بالله عزَّ وجلَّ " لا بغيره
.
ويجب
التنبيه هنا إلى أنَّ التقديم للاختصاص ليس مقصورًا على كون المقدَّم ظرفًا
والمؤخَّر مبتدأ ؛ فقد " كاد أهل البيان يُطبقون على أنَّ تقديم المعمول يفيد
الحصر ، سـواء كان مفعـولاً أو ظرفًا أو مجرورًا ، ولهذا قيل في ﴿ إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ : معناه : نخصُّك بالعبادة والاستعانة " .
2-
التنبيه من أوَّل الأمر على أنَّ الظرف خبرٌ لا نعت ، كما في قول الشاعر :
له
هـممٌ لا منتهى لكبارها وهمَّته الصغرى أجلُّ من الدهر
فإنَّه
" لو أخَّر فقال : هممٌ له ، لتُوُهِّم أنَّه صفة " ، فقدَّم الخبر
للتنبيه وإزالة الوهم .
ولتقديم
المبتدإ على الفعل أغراض كثيرة ، منها :
1-
التخصيص بالخبر الفعليِّ ، نحو : أنا سعيتُ في حاجتك ؛ لإفادة الانفراد بالسعي
وعدم الشركة فيه .2- تحقيق الأمر وإزالة الشكِّ ، نحو : هو يعطي الجزيل ، فليس
الغرض هنا ادِّعاء اختصـاصه بذلك دون غيره ، وإنَّما الغرض تأكيد المعنى في نفس
السامع .
3-
تعجيل مسـرَّة السامع أو مسـاءته ، نحو : خليلك عاد من السفر ، ونحو : الكئيب
يزورك اليوم .
وغير
ذلك من الأغراض ممَّا سيأتي مفصَّلاً في موضعه .
قيمة
التقديم والتأخير :
ظاهرة
التقديم والتأخير – شـأن الظواهر السـياقيَّة الأخرى كالحذف والزيادة وغيرها –
مظهرٌ من مظاهر شجاعة العربيَّة ؛ ففيها إقدام على مخالفة لقرينة من قرائن المعنى
من غير خشـية لبس ، اعتمادًا على قرائن أخرى ، ووصولاً بالعبارة إلى دلالاتٍ
وفوائد تجعلها عبارةً راقيةً ذات رونقٍ وجمال .
والقيمة
البيانيَّة للتقديم والتأخير مرتبطةٌ بالجائز منه ، ومرهونةٌ بحسن استعماله على
وفق مقتضى الحال ، والوعي باستعماله في موضعه ، وإلاَّ كان عبثًا لا قيمة له ولا
فائدة بل ربَّما يؤدِّي إلى إفساد المعنى .
والأغراض
الَّتي تتفتَّق عنها ظاهـرة التقديم تبيِّن ثراءها وكثرة فوائـدها ، وكونها منبعًا
ثرًّا لرقيِّ الأساليب وارتفاعها في البيان .
فلا
عجب حين نرى احتفاء الإمام عبد القاهر الجرجاني بهذه الظاهرة في قوله عن بابها :
" هو بابٌ كثير الفوائد ، جمُّ المحاسن ، واسع التصرُّف ، بعيد الغاية ، لا
يزال يفترُّ لك عن بديعة ، ويفضي بك إلى لطيفة ، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعُه
، ويَلطُف لديك موقعُه ، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ
وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان " .
نسيم الصباح- عضو نشيط
-
تاريخ التسجيل : 25/01/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى