تاملات في قواعد التفسير
صفحة 1 من اصل 1
تاملات في قواعد التفسير
تأملات في قواعد التفسير
نموذجا قاعدتَي:
• تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات.
• القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا.
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقواعد التفسير هي التي تَعصِم المُفسِّر للقرآن الكريم من الوقوع في الزلل، ونظرًا لأهميتها ووظيفتها البالغة ارتأيتُ أن أشتغِل على قاعدتين مهمتين تتمثَّلان فيما يلي:
أولاً - قاعدة: تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات.
ثانيًا - قاعدة: القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا.
وللإشارة، فإن هاتين القاعدتين أوردهما الدكتور خالد السبت في كتابه القيم "قواعد التفسير جمعًا ودراسة"؛ الجزء الأول، تحت القسم الثالث المُتعلِّق بالأحرف والقراءات التي نزل بها القرآن.
وقبل دراسة القاعدتين أعلاه، أتناوَل هذا العرض من الجوانب التالية:
المحور الأول: تعريف القاعدة لغة واصطلاحًا.
المحور الثاني: بيان معنى قواعد التفسير.
المحور الثالث: توثيق القاعدة.
المحور الرابع: شرح القاعدة.
المحور الخامس: تطبيقات القاعدة عند خالد السبت في الكتاب المومأ إليه أعلاه.
المحور الأول: تعريف القاعدة لغة:
القاعدة لغة:
وردت بمعان متعدِّدة؛ منها:
أ- القواعد بمعنى أساطين البناء وأعمدته وأسسه: ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ [البقرة: 127].
ب- قواعد الهودج: خشبات أربع معترضة في أسفله تركب عيدان الهودج منها.
ت- قواعد السحاب: أصولها المُعترضة في آفاق السماء شُبِّهت بقواعد البناء.
ث- القواعد من النساء: هن الكبيرات المسنَّات اللواتي قعدن عن المحيض والولد، أو قعدن عن الزواج[1].
وإذا أمعنَّا النظرَ في هذه المعاني المُتعدِّدة وجدناها تؤول إلى معنى واحد يجمعها، وهو الأساس، فقواعد كل شيء: أُسسه وأصوله التي يَنبني عليها[2].
القاعدة اصطلاحًا:
وفي الإصطلاح: يتنوَّع مفهومها بتنوع العلوم، فهناك قواعد أصوليَّة ونحوية وقانونية وهندسية، وعشرات من العلوم التي لكل منها قواعدها واصطلاحاتها الخاصة.
وقد وضَع العلماء لها تعريفات مُتعدِّدة؛ منها:
قول الشريف الجرجاني بأنها: قضية كليَّة مُنطبِقة على جميع جزئياتها[3].
قول الفيومي بأنها: الأمر الكلي المُنطبِق على جميع جزئيَّاته[4].
ومما يُلاحَظ على هذين التعريفين أنهما لم يتقيَّدا بعلم مُعيَّن بحيث يَصدُق هذا المدلول على قواعد التفسير وغيرها.
المحور الثاني: بيان معنى قواعد التفسير:
عُرِّفت قواعد التفسير بعدة تعريفات؛ منها:
• أنها مجموعة من الضوابط يستفيد منها المُقدِم على تفسير القرآن الكريم[5].
• هي الأحكام الكليَّة التي يُتوصَّل بها إلى استنباط معاني القرآن العظيم ومعرفة كيفية الاستفادة منها[6].
المحور الثالث: توثيق القاعدتين التاليتين:
• تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات.
• القراءات يُبيّن بعضها بعضًا.
بالنسبة للقاعدة الأولى فقد تتبَّعتُ الإحالات التي أحال عليها خالد السبت وهي:
1- مجموع الفتاوى؛ لابن تيميَّة، في الأجزاء (13- 15- 17)، فوجدت فيها ما يلي: يقول ابن تيميَّة في الجزء 13 - بعد ذكَره أوجه اختلاف القراءات -: "وهذه القراءات التي يتغيَّر فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآيتين، يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمَّنته من المعنى علمًا وعملاً، لا يجوز ترْك موجب إحداهما لأجل الأخرى"؛ انتهى كلامه[7]، وفي الجزء (15 و17)، اكتفى بذكرِ أمثلة من القرآن الكريم لتأييد القاعدة[8].
2- البرهان للزركشي: ساق في النوع 22 المُعَنون بـ: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إثبات لفظ بدل آخر ما يلي: إن كان لكل قراءة تفسير يُغاير الأخرى؛ فقد قال الله بهما جميعًا، وتصير القراءتان بمنزلة آيتين، مثل ﴿ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]، وإن كان تفسيرهما واحدًا كالبُيُوت، والبِيُوت فإنما قال بإحداهما، وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة على ما تعوَّد لسانهم[9]، وللإشارة، فإن نفس الكلام سيق في كتاب الكليات؛ لأبي البقاء الكفوي[10].
3- أضواء البيان؛ للشنقيطي: يقول في الجزء 2، (ص : واعلم أولاً أن القراءتين إذا ظهر تَعارُضهما في آية واحدة لهما حُكْم الآيتين كما هو معروف عند العلماء.
4- فصول في أصول التفسير: ذكَر فيه صاحبه مساعد بن سليمان الطيار في ص: 128 تحت عنوان: قواعد في القراءات ما يلي:
• القراءتان في الآية إذا ظهر تَعارُضهما، لهما حُكم الآيتين، وصارت بمثابة اختلاف التنوع؛ ونقل ذلك عن كتاب: النشر في القراءات العشر، ج1، ص: 49- 51، ودقائق التفسير ج1، ص: 69.
5- الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي، يقول في النوع "الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والعشرون": تحت عنوان "معرفة المُتواتِر والمشهور والآحاد والشاذ والموضوع والمُدرَج" - ومنها: المبالَغة في إعجازه بإيجازه؛ إذ تنوَّع القراءات بمنزلة الآيات، ولو جُعلت دَلالة كل لفظ آية على حِدة لم يَخفَ ما كان فيه من التطويل، ولهذا كان قوله: ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، منزلاً لغَسْل الرجل، والمسح على الخف، واللفظ واحد، لكن باختلاف إعرابه[11].
هذا ما يتعلَّق بتتبُّع إحالات القاعدة الأولى.
وبالنسبة للقاعدة الثانية: القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا.
فالإحالات التي أحال عليها خالد السبت كالآتي:
6- الإتقان في الجزء الأول، ص: 227، وجدته قال بالحرف:
ومنها: أن بعض القراءات يُبيِّن ما لعله يجهل في القراءة الأخرى؛ فقراءة ﴿ يَطَّهَرْنَ ﴾ بالتشديد مُبِيّنة لمعنى قراءة التخفيف، وقراءة "فامضوا إلى ذكر الله"؛ تُبين أن المراد بقراءة: ﴿ فَاسْعَوْا ﴾ [الجمعة: 9]، الذَّهاب، لا المشي السريع.
7- فصول في أصول التفسير: وجدته عبَّر بنفس مصطلح القاعدة - أي: القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا - واكتفى بذكر مثال لهافي قوله تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]، قرأ حمزة والكسائي وشُعبة وعاصم: ﴿ عَقَدْتُمُ ﴾ بالتخفيف بلا ألف، وقرأ ابن ذكوان عن عامر "عاقدتم" بألف بوزن فاعل، وقرأ الباقون ﴿ عَقَّدْتُمُ ﴾ بالتشديد من غير ألف.
والتضعيف والمُفاعَلة معناها مجرَّد الفعل، بدليل قراءة ﴿ عَقَدْتُمُ ﴾ بلا ألف ولا تضعيف، والقراءات يُبيِّن بعضها بعضًا[12]، وهذا الكلام نقله بالحرف عن الشنقيطي في أضواء البيان[13].
المحور الرابع: شرح القاعدتين:
أ- شرح القاعدة الأولى:
تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات: يُقصَد بهذه القاعـدة كما أسلفـنا: أنه إن كان لكل قراءة معنى يُغاير معنى القراءة الأخرى، وهما في موضِع واحد، ولم يمكن اجتماعهما في شيء واحد، بل يتَّفِقان من وجه آخر، فهما بمنزلة آيتيـن[14]، وفيما سلف نجـد مَن أحال عليه خالـد السبت يكاد يُعطينا نفس تصوُّر هذه القاعدة.
ب- شرح القاعدة الثانية:
القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا: معناها كما قال صاحب هذه القواعد، خالد السبت: إن القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا، سواء كانت متواترة مع مِثلها، أو آحادًا مع متواترة؛ إذ القراءة الآحادية تُفسِّر المتواترة.
وهذه القاعدة التي ساقها خالد السبت مُنطبِقة تمامًا مع ما أشار إليه مساعد بن سليمان الطيار في كتابه: فصول في أصول التفسير[15] السالف ذِكرها عند التحقق من إحالة خالد السبت عليه.
المحور الخامس: تطبيقات حول القاعدتين:
أ- تطبيقات للقاعدة الأولى:
المُتعلِّقة بتنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات.
بالرجوع إلى كتاب قواعد التفسير جمعًا ودراسة، وجدته مثَّل لهذه القاعدة بمثالين من القرآن الكريم.
المثال الأول: يتجلَّى في قول الله - عز وجل -: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 15]، حكى أنه في قوله تعالى ﴿ المجيد ﴾ قراءتان بالرفع والجر، فعلى قراءة الرفع يكون ﴿ المجيدُ ﴾ صفة لله - عز وجل - وعلى قراءة الجر يكون صفة للعرش؛ فكأنهما آيتان.
وهذا المثال أورده مساعد بن سليمان الطيار في كتابه أصول التفسير[16].
المثال الثاني: مثَّل له بقوله تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ [الصافات: 12]، وفي قراءة ﴿ عجبتُ ﴾، فقراءة الفتح يكون ذلك راجعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى قراءة الرفع يكون من فعل الله تعالى[17].
ب- تطبيقات للقاعدة الثانية:
القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا: هذه القاعدة عند التطبيق لها، تُبيِّن أن خالد السبت صنَّف أمثلتها صنفين:
الصِّنف الأول: مثال القراءة المتواترة التي تُبيِّن المتواترة.
الصنف الثاني: مثال القراءة الآحادية التي تُفسِّر المتواترة.
فبالنسبة للصِّنف الأول أورد فيه مثالين من القرآن الكريم:
أولهما - قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]، مع قراءة يطهرن[18] فيؤخذ من القراءة الثانية أن قوله: "يطهرن"، وهي القراءة الأولى يُراد به الاغتسال مع انقطاع الدم، فلا يجوز قربان المرأة قبل ذلك.
ثانيهما - قوله تعالى: ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [النساء: 43]، مع قراءة "لمستم" على القول بأن اللمس يحتمل الجماع وما دونه، والملامسة؛ أي: المجامعة[19].
وبالنسبة للصِّنف الثاني المتعلّق بالقراءة الآحادية كونها مفسِّرة للمتواترة، فقد ساق لها خمسة أمثلة من القرآن الكريم وهي كالتالي:
أولاً - قوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238]، فالصلاة الوسطى يُبيِّن المراد بها قراءة حفصة وعائشة - رضي الله عنهما -: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر".
ثانيًا - قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38].
فقوله: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ جاء تعيين اليد في قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: "والسارقون[20] والسارقات فاقطعوا أيمانهم[21].
ثالثًا - قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 226]، جاء في قراءة أُبيّ: فإن فاؤوا فيهن[22].
رابعًا: قال تعالى: ﴿ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ﴾ [النساء: 12]، جاء في قراءة سعد - رضي الله عنه -: "له أخ أو أخت من أمه فلكل"[23].
خامسًا: قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198].
جاء في قراءة ابن عباس: لا جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج[24].
وبهذه الأمثلة أتى خالد السبت على نهاية ما يتعلَّق بالقاعدتين السالفتين، وبهذا نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفِّقنا ويُوفِّق كلَّ غيور لخدمة كتاب الله - عز وجل - قراءة وتدبُّرًا، آميـن والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] لسان العرب، مادة (قعد)، لابن منظور، دار إحياء التراث العربي، بيروت ط3، 1413هـ/1993م.
[2]نظرية التقعيد الفِقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، الدكتور محمد الروكي، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط1، 1994، المكتبة العصرية، بيروت، 1996م، ص: 38.
[3] التعريفات للجرجاني؛ تحقيق عبدالمنعم الحنفي، دار الرَّشاد، القاهرة، 1992، ص: 171.
[4] المصباح المنير؛ للفيومي، ج2، ص: 74.
[5] نظرات في قواعد التفسير، للدكتور عبدالرزاق هرماس، بحث منشور بمجلة الإحياء عدد رقم 21، ت. ط: 1417هـ- 1997م، ص: 8.
[6] قواعد التفسير جمعًا ودراسة؛ للدكتور خالد السبت، ج1، ص: 30.
[7] مجموع الفتاوى، ج13، ص: 391- 392.
[8] المرجع السابق، ج17، ص: 381- 382.
[9] البرهان؛ للزركشي، ج1، ص: 326.
[10] الكليات؛ لأبي البقاء الكفوي، ص: 722.
[11] الإتقان في علوم القرآن، ص: 175.
[12] فصول في أصول التفسير مساعد سليمان الطيار، دار ابن الجوزي، الإمام، 1420هـ، ص: 129.
[13] أضواء البيان، ج2، للشنقيطي، ص: 120.
[14] قواعد التفسير جمعًا ودراسة، خالد بن عثمان السبت، ج1، دار ابن عفان، الجيزة، ط1، 1421هـ، ص: 88.
[15] فصول في أصول التفسير، ص: 129.
[16] ص: 128، ونظرته في المبسوط لابن مهران، ص: 375، وحُجَّة القراءات، ص: 606 ووجدت المثالين كذلك.
[17] نظرته في "المبسوط"، ص: 375، وحجة القراءات، ص: 606، فكانا كذلك.
[18] تَحقَّقت من هذا المثال وغيره مما سيذكر في الإحالات التي أحال عليها؛ التزامًا بالأمانة العلمية، فوجدت ذلك صحيحًا في الإحالات التالية.
[19] قواعد التفسير جمعًا ودراية، ج1، ص: 91.
[20] قواعد التفسير جمعًا ودراية، ج1، ص: 92، نقلاً عن الإمام الزركشي في البرهان، ج1، ص: 336.
[21] قواعد التفسير، ج1، ص: 92، نقلاً عن أبي عبيد في فضائل القرآن، ص: 293.
[22] قواعد التفسير، ج1، ص: 92.
[23] المصدر السابق، ص: 92.
[24] قواعد التفسير، ج1، ص
نموذجا قاعدتَي:
• تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات.
• القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا.
بسـم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقواعد التفسير هي التي تَعصِم المُفسِّر للقرآن الكريم من الوقوع في الزلل، ونظرًا لأهميتها ووظيفتها البالغة ارتأيتُ أن أشتغِل على قاعدتين مهمتين تتمثَّلان فيما يلي:
أولاً - قاعدة: تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات.
ثانيًا - قاعدة: القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا.
وللإشارة، فإن هاتين القاعدتين أوردهما الدكتور خالد السبت في كتابه القيم "قواعد التفسير جمعًا ودراسة"؛ الجزء الأول، تحت القسم الثالث المُتعلِّق بالأحرف والقراءات التي نزل بها القرآن.
وقبل دراسة القاعدتين أعلاه، أتناوَل هذا العرض من الجوانب التالية:
المحور الأول: تعريف القاعدة لغة واصطلاحًا.
المحور الثاني: بيان معنى قواعد التفسير.
المحور الثالث: توثيق القاعدة.
المحور الرابع: شرح القاعدة.
المحور الخامس: تطبيقات القاعدة عند خالد السبت في الكتاب المومأ إليه أعلاه.
المحور الأول: تعريف القاعدة لغة:
القاعدة لغة:
وردت بمعان متعدِّدة؛ منها:
أ- القواعد بمعنى أساطين البناء وأعمدته وأسسه: ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ [البقرة: 127].
ب- قواعد الهودج: خشبات أربع معترضة في أسفله تركب عيدان الهودج منها.
ت- قواعد السحاب: أصولها المُعترضة في آفاق السماء شُبِّهت بقواعد البناء.
ث- القواعد من النساء: هن الكبيرات المسنَّات اللواتي قعدن عن المحيض والولد، أو قعدن عن الزواج[1].
وإذا أمعنَّا النظرَ في هذه المعاني المُتعدِّدة وجدناها تؤول إلى معنى واحد يجمعها، وهو الأساس، فقواعد كل شيء: أُسسه وأصوله التي يَنبني عليها[2].
القاعدة اصطلاحًا:
وفي الإصطلاح: يتنوَّع مفهومها بتنوع العلوم، فهناك قواعد أصوليَّة ونحوية وقانونية وهندسية، وعشرات من العلوم التي لكل منها قواعدها واصطلاحاتها الخاصة.
وقد وضَع العلماء لها تعريفات مُتعدِّدة؛ منها:
قول الشريف الجرجاني بأنها: قضية كليَّة مُنطبِقة على جميع جزئياتها[3].
قول الفيومي بأنها: الأمر الكلي المُنطبِق على جميع جزئيَّاته[4].
ومما يُلاحَظ على هذين التعريفين أنهما لم يتقيَّدا بعلم مُعيَّن بحيث يَصدُق هذا المدلول على قواعد التفسير وغيرها.
المحور الثاني: بيان معنى قواعد التفسير:
عُرِّفت قواعد التفسير بعدة تعريفات؛ منها:
• أنها مجموعة من الضوابط يستفيد منها المُقدِم على تفسير القرآن الكريم[5].
• هي الأحكام الكليَّة التي يُتوصَّل بها إلى استنباط معاني القرآن العظيم ومعرفة كيفية الاستفادة منها[6].
المحور الثالث: توثيق القاعدتين التاليتين:
• تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات.
• القراءات يُبيّن بعضها بعضًا.
بالنسبة للقاعدة الأولى فقد تتبَّعتُ الإحالات التي أحال عليها خالد السبت وهي:
1- مجموع الفتاوى؛ لابن تيميَّة، في الأجزاء (13- 15- 17)، فوجدت فيها ما يلي: يقول ابن تيميَّة في الجزء 13 - بعد ذكَره أوجه اختلاف القراءات -: "وهذه القراءات التي يتغيَّر فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآيتين، يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمَّنته من المعنى علمًا وعملاً، لا يجوز ترْك موجب إحداهما لأجل الأخرى"؛ انتهى كلامه[7]، وفي الجزء (15 و17)، اكتفى بذكرِ أمثلة من القرآن الكريم لتأييد القاعدة[8].
2- البرهان للزركشي: ساق في النوع 22 المُعَنون بـ: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إثبات لفظ بدل آخر ما يلي: إن كان لكل قراءة تفسير يُغاير الأخرى؛ فقد قال الله بهما جميعًا، وتصير القراءتان بمنزلة آيتين، مثل ﴿ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]، وإن كان تفسيرهما واحدًا كالبُيُوت، والبِيُوت فإنما قال بإحداهما، وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة على ما تعوَّد لسانهم[9]، وللإشارة، فإن نفس الكلام سيق في كتاب الكليات؛ لأبي البقاء الكفوي[10].
3- أضواء البيان؛ للشنقيطي: يقول في الجزء 2، (ص : واعلم أولاً أن القراءتين إذا ظهر تَعارُضهما في آية واحدة لهما حُكْم الآيتين كما هو معروف عند العلماء.
4- فصول في أصول التفسير: ذكَر فيه صاحبه مساعد بن سليمان الطيار في ص: 128 تحت عنوان: قواعد في القراءات ما يلي:
• القراءتان في الآية إذا ظهر تَعارُضهما، لهما حُكم الآيتين، وصارت بمثابة اختلاف التنوع؛ ونقل ذلك عن كتاب: النشر في القراءات العشر، ج1، ص: 49- 51، ودقائق التفسير ج1، ص: 69.
5- الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي، يقول في النوع "الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والعشرون": تحت عنوان "معرفة المُتواتِر والمشهور والآحاد والشاذ والموضوع والمُدرَج" - ومنها: المبالَغة في إعجازه بإيجازه؛ إذ تنوَّع القراءات بمنزلة الآيات، ولو جُعلت دَلالة كل لفظ آية على حِدة لم يَخفَ ما كان فيه من التطويل، ولهذا كان قوله: ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، منزلاً لغَسْل الرجل، والمسح على الخف، واللفظ واحد، لكن باختلاف إعرابه[11].
هذا ما يتعلَّق بتتبُّع إحالات القاعدة الأولى.
وبالنسبة للقاعدة الثانية: القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا.
فالإحالات التي أحال عليها خالد السبت كالآتي:
6- الإتقان في الجزء الأول، ص: 227، وجدته قال بالحرف:
ومنها: أن بعض القراءات يُبيِّن ما لعله يجهل في القراءة الأخرى؛ فقراءة ﴿ يَطَّهَرْنَ ﴾ بالتشديد مُبِيّنة لمعنى قراءة التخفيف، وقراءة "فامضوا إلى ذكر الله"؛ تُبين أن المراد بقراءة: ﴿ فَاسْعَوْا ﴾ [الجمعة: 9]، الذَّهاب، لا المشي السريع.
7- فصول في أصول التفسير: وجدته عبَّر بنفس مصطلح القاعدة - أي: القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا - واكتفى بذكر مثال لهافي قوله تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]، قرأ حمزة والكسائي وشُعبة وعاصم: ﴿ عَقَدْتُمُ ﴾ بالتخفيف بلا ألف، وقرأ ابن ذكوان عن عامر "عاقدتم" بألف بوزن فاعل، وقرأ الباقون ﴿ عَقَّدْتُمُ ﴾ بالتشديد من غير ألف.
والتضعيف والمُفاعَلة معناها مجرَّد الفعل، بدليل قراءة ﴿ عَقَدْتُمُ ﴾ بلا ألف ولا تضعيف، والقراءات يُبيِّن بعضها بعضًا[12]، وهذا الكلام نقله بالحرف عن الشنقيطي في أضواء البيان[13].
المحور الرابع: شرح القاعدتين:
أ- شرح القاعدة الأولى:
تنوُّع القراءات بمنزلة تَعدُّد الآيات: يُقصَد بهذه القاعـدة كما أسلفـنا: أنه إن كان لكل قراءة معنى يُغاير معنى القراءة الأخرى، وهما في موضِع واحد، ولم يمكن اجتماعهما في شيء واحد، بل يتَّفِقان من وجه آخر، فهما بمنزلة آيتيـن[14]، وفيما سلف نجـد مَن أحال عليه خالـد السبت يكاد يُعطينا نفس تصوُّر هذه القاعدة.
ب- شرح القاعدة الثانية:
القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا: معناها كما قال صاحب هذه القواعد، خالد السبت: إن القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا، سواء كانت متواترة مع مِثلها، أو آحادًا مع متواترة؛ إذ القراءة الآحادية تُفسِّر المتواترة.
وهذه القاعدة التي ساقها خالد السبت مُنطبِقة تمامًا مع ما أشار إليه مساعد بن سليمان الطيار في كتابه: فصول في أصول التفسير[15] السالف ذِكرها عند التحقق من إحالة خالد السبت عليه.
المحور الخامس: تطبيقات حول القاعدتين:
أ- تطبيقات للقاعدة الأولى:
المُتعلِّقة بتنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات.
بالرجوع إلى كتاب قواعد التفسير جمعًا ودراسة، وجدته مثَّل لهذه القاعدة بمثالين من القرآن الكريم.
المثال الأول: يتجلَّى في قول الله - عز وجل -: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 15]، حكى أنه في قوله تعالى ﴿ المجيد ﴾ قراءتان بالرفع والجر، فعلى قراءة الرفع يكون ﴿ المجيدُ ﴾ صفة لله - عز وجل - وعلى قراءة الجر يكون صفة للعرش؛ فكأنهما آيتان.
وهذا المثال أورده مساعد بن سليمان الطيار في كتابه أصول التفسير[16].
المثال الثاني: مثَّل له بقوله تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ [الصافات: 12]، وفي قراءة ﴿ عجبتُ ﴾، فقراءة الفتح يكون ذلك راجعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى قراءة الرفع يكون من فعل الله تعالى[17].
ب- تطبيقات للقاعدة الثانية:
القراءات يُبيِّن بعضها بعضًا: هذه القاعدة عند التطبيق لها، تُبيِّن أن خالد السبت صنَّف أمثلتها صنفين:
الصِّنف الأول: مثال القراءة المتواترة التي تُبيِّن المتواترة.
الصنف الثاني: مثال القراءة الآحادية التي تُفسِّر المتواترة.
فبالنسبة للصِّنف الأول أورد فيه مثالين من القرآن الكريم:
أولهما - قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]، مع قراءة يطهرن[18] فيؤخذ من القراءة الثانية أن قوله: "يطهرن"، وهي القراءة الأولى يُراد به الاغتسال مع انقطاع الدم، فلا يجوز قربان المرأة قبل ذلك.
ثانيهما - قوله تعالى: ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [النساء: 43]، مع قراءة "لمستم" على القول بأن اللمس يحتمل الجماع وما دونه، والملامسة؛ أي: المجامعة[19].
وبالنسبة للصِّنف الثاني المتعلّق بالقراءة الآحادية كونها مفسِّرة للمتواترة، فقد ساق لها خمسة أمثلة من القرآن الكريم وهي كالتالي:
أولاً - قوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238]، فالصلاة الوسطى يُبيِّن المراد بها قراءة حفصة وعائشة - رضي الله عنهما -: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر".
ثانيًا - قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38].
فقوله: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ جاء تعيين اليد في قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: "والسارقون[20] والسارقات فاقطعوا أيمانهم[21].
ثالثًا - قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 226]، جاء في قراءة أُبيّ: فإن فاؤوا فيهن[22].
رابعًا: قال تعالى: ﴿ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ﴾ [النساء: 12]، جاء في قراءة سعد - رضي الله عنه -: "له أخ أو أخت من أمه فلكل"[23].
خامسًا: قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198].
جاء في قراءة ابن عباس: لا جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج[24].
وبهذه الأمثلة أتى خالد السبت على نهاية ما يتعلَّق بالقاعدتين السالفتين، وبهذا نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفِّقنا ويُوفِّق كلَّ غيور لخدمة كتاب الله - عز وجل - قراءة وتدبُّرًا، آميـن والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] لسان العرب، مادة (قعد)، لابن منظور، دار إحياء التراث العربي، بيروت ط3، 1413هـ/1993م.
[2]نظرية التقعيد الفِقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، الدكتور محمد الروكي، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط1، 1994، المكتبة العصرية، بيروت، 1996م، ص: 38.
[3] التعريفات للجرجاني؛ تحقيق عبدالمنعم الحنفي، دار الرَّشاد، القاهرة، 1992، ص: 171.
[4] المصباح المنير؛ للفيومي، ج2، ص: 74.
[5] نظرات في قواعد التفسير، للدكتور عبدالرزاق هرماس، بحث منشور بمجلة الإحياء عدد رقم 21، ت. ط: 1417هـ- 1997م، ص: 8.
[6] قواعد التفسير جمعًا ودراسة؛ للدكتور خالد السبت، ج1، ص: 30.
[7] مجموع الفتاوى، ج13، ص: 391- 392.
[8] المرجع السابق، ج17، ص: 381- 382.
[9] البرهان؛ للزركشي، ج1، ص: 326.
[10] الكليات؛ لأبي البقاء الكفوي، ص: 722.
[11] الإتقان في علوم القرآن، ص: 175.
[12] فصول في أصول التفسير مساعد سليمان الطيار، دار ابن الجوزي، الإمام، 1420هـ، ص: 129.
[13] أضواء البيان، ج2، للشنقيطي، ص: 120.
[14] قواعد التفسير جمعًا ودراسة، خالد بن عثمان السبت، ج1، دار ابن عفان، الجيزة، ط1، 1421هـ، ص: 88.
[15] فصول في أصول التفسير، ص: 129.
[16] ص: 128، ونظرته في المبسوط لابن مهران، ص: 375، وحُجَّة القراءات، ص: 606 ووجدت المثالين كذلك.
[17] نظرته في "المبسوط"، ص: 375، وحجة القراءات، ص: 606، فكانا كذلك.
[18] تَحقَّقت من هذا المثال وغيره مما سيذكر في الإحالات التي أحال عليها؛ التزامًا بالأمانة العلمية، فوجدت ذلك صحيحًا في الإحالات التالية.
[19] قواعد التفسير جمعًا ودراية، ج1، ص: 91.
[20] قواعد التفسير جمعًا ودراية، ج1، ص: 92، نقلاً عن الإمام الزركشي في البرهان، ج1، ص: 336.
[21] قواعد التفسير، ج1، ص: 92، نقلاً عن أبي عبيد في فضائل القرآن، ص: 293.
[22] قواعد التفسير، ج1، ص: 92.
[23] المصدر السابق، ص: 92.
[24] قواعد التفسير، ج1، ص
مصطفى البعزاوي- عضو نشيط
-
تاريخ التسجيل : 12/11/2014
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى