مقدمة في علم التوثيق او علم الشروط
صفحة 1 من اصل 1
مقدمة في علم التوثيق او علم الشروط
مقدمة:
لقد جاءت شريعتنا الإسلامية السمحة على نحو تخفف من أخطار التنازع، وتدرأ من مفاسدها، وتعين على معرفة أصحاب الحقوق، لينالوها قضاءً، وتعمل على السداد في المعاملات، إنها طريقة التوثيق التي ندب الشارع إليها بتحريضه على كتابة الدَّين. والإشهاد في سائر المعاملات.
إذ التوثيق يُمَكِّن أصحاب الحقوق من حقوقهم، ويحفظ المال لأهله، ويجنب المتعاقدين من مزالق الحرام، ويصون أعراض الناس، فبه يميز النكاح من السفاح، ويثبت نسب الأبناء إلى آبائهم، وبه يحسم كثير من أسباب الخصومات، وتسد أبواب المنازعات، وهذا فيه ما يضمن للمجتمع سلامته وأمنه واستقراره.
واعتبارا للأهمية البالغة لهذا الفن من العلوم الشريفة، ونظرا لخطورته نجد الشارع الحكيم قد خلد في القرآن الكريم أمرا ساقه في أطول آية على الإطلاق، وهو الأمر بتوثيق الديون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (البقرة: 282).
كما أننا نجد النبي صلى الله عليه وسلم حرص على التوثيق، ووثق الكثير من الرسائل والمبايعات وغيرها، وحث على ذلك وأمر أصحابه أن يوثقوا عقودهم ومعاملاتهم، وكذلك فعلوا ومن سار على دربهم ونهج منهجهم القويم من فحول العلماء وأكابر الفقهاء، حتى شاع التوثيق وصار علماً قائما بذاته له قواعده وشروطه وضوابطه، ومنهجا يضبط أصوله وقواعده الخاصة ممن بذلوا الأوقات، والأنفاس، حتى تأهلوا وبلغوا فيه المعالي…
المطلب الأول: التوثيق: تعريفه وإطلاقاته.
لغة: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: الواو والثاء والقاف: تدل على عقد وإحكام، ووثقت الشيء: أحكمته، والميثاق العهد المحكم، من ذلك قوله تعالى: }فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق{ أي: أحكموا ربطهم لئلا ينفلتوا.
ولذا سميت الوثيقة وثيقة لأنها تحكم ما جرى بين المتعاقدين.
وجاءت لفظة (وَثَقَ) وما اشتق منها على عدة معاني، منها:
1- قال الأزهري: الوَثاقَة: مصدر الشيء الوَثيق المُحكم، والفعل اللازم: وَثُقَ وثاقة فهو وَثيق ([1])
2- والوَثاق: اسم الإيثاق، تقول: أوثقتُهُ إيثاقًا ووَثاقًا، والحبل أو الشيء يُوَثق به: وثاق. والجميع: الوُثُق، منـزلة الرِباط والرُّبُط ([2])
- والوثيقةُ في الأمر: إحكامُهُ والأخذ بالثقَة، والجمع؛: الوَثائق ([3])
- والمَوْثَق والمِيْثَاق: العَهْدُ، والجمع: المواثِيق على الأصل، وفي المحكم: والجمع: المَواثِق ([4])
- والمُواثَقة: المعاهدة ([5])
- والثقَةُ: مصدر قولك: وَثِقَ به يَثِق - بالكسر فيهما - وثاقةُ، وَثِقَة: ائتمنه، وأنا واثق به، وهو مَوثُوق به ([6]) والذي يعنينا في هذا البحث ما كان بمعنى اليمين والمَوْثق والعَهْد المحكم، دون ما سوى ذلك مما يتعلق بهاتين الكلمتين أو اشتقاقهما من معان أخرى. ويسمى كذلك هذا العلم ب:
- علم الشروط: لأنه لا تخلو وثيقة من شروط فيها فأطلق عليه ذلك من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه.
- علم الوثائق أو التوثيق: والوثاق ما يعقد به الشيء ويربط به كالحبل ونحوه، فكذلك الحق الذي في الوثيقة.
- علم الإثبات.أي إثبات الحقوق بين المتعاقدين.
المطلب الثاني : نشأته والمؤلفات فيه
نشأ علم التوثيق منذ العهد الإسلامي، يدل على ذلك قول الله تعالى } يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل…{، وكان r يكتب العهود، والعقود وكانت تكتب أيضا بدقة وتحري للألفاظ.
وأول كتاب النبي r علي رضي الله عنه، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أيضاً يكتبون ويوثقون، فكتب زيد بن أرقم، والعلاء بن عقبة بين الناس في قبائلهم ومياههم.
و كان يكتب المداينات والمعاملات أيضا المغيرة بن شعبة والحصين بن نصر .
وقد كانت مهنة شريفة في التاريخ الإسلامي، قال ابن فرحون: "وهي صناعة جليلة شريفة، وبضاعة عالية متينة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية "، وقال ابن بري: " كفى بعلم الوثائق شرفاً وفخراً انتحال أكابر التابعين لها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكتبونها على عهد النبي".
ومع ذلك فقد كانت الكتابة محدودة وقليلة، وبعد اتساع رقعة الدولة وكثرت التجارات، وبدأت الذمم بالاختلاف نتيجة الاختلاط والتوسع في البلاد، ظهرت الحاجة إلى من يكتب للناس عقودهم ومدايناتهم، فوجد من أهل الصلاح والاحتساب من يكتب ذلك دون أجر، ومن هؤلاء: خارجة بن زيد بن ثابت، وطلحة بن عبدالله بن عوف المسمى بطلحة الندى، الذي تولى القضاء في المدينة، وهو ابن أخ عبد الرحمن بن عوف،.
وفي ظل الوضع القائم احتاج القضاة أيضاً إلى تحديد شهود من أهل العدل الذين يعرفونهم ويثقون فيهم فدونوا أسماءهم في ديوان القضاء لتعتبر شهادتهم، وكانوا كثيري المخالطة للقضاة ورؤية ما يكتبه القاضي حتى تعلموا حرفة الكتابة والتوثيق واتخذوا لهم أماكن خارج مجالس القضاة ليكتبوا للناس ما يحتاجون إلى توثيقه، وكانت لهم دكاكين تسمى بالمصاطب، أو سماط العدول.
وفي بعض البلدان الإسلامية انقسم هؤلاء إلى قسمين:
قسم يتولى تحرير عقود العقارات من البيع والأوقاف والهبات والوصايا وكل ماله صلة بالعقار. وهو ما يشبه الآن كتابة العدل الأولى، والقسم الآخر يقوم بتوثيق عقود النكاح والطلاق، والمعاملات التجارية، والوكالات. وهو ما يشبه الآن كتابة العدل الثانية…
وكثر هؤلاء الكتبة إلى حد أن وصل عددهم بالبصرة في بعض الأوقات إلى ستة وثلاثين ألفا (36000)، وفي مصر: ألف وخمسمائة (1500).
أول من كتب في علم التوثيق (الشروط):
كما قلنا من قبل أن هذا العلم نشأ منذ بداية الإسلام، ولكن من الذي اهتم به ليكون مستقلاً له بحثه وأدواته قيل إن أول من دون فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله (-80-150) وذكروا أن له كتابا يسمى (الشروط).
وقال بعضهم إن أول من كتب فيه هلال بن يحي البصري(245هـ)
أهم المؤلفات في هذا الفن:
وصل عدد المؤلفات فيه إلى أكثر من خمسين مؤلفاً، منها:
1- الشروط والوثائق لمحمد بن أحمد السمرقندي.
2- الوثائق لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي.
3- الشروط والوثائق لأبي إسحاق المروزي الشافعي صاحب المزني.
4- معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام لعلاء الدين علي بن خليل الطرابلسي
5- التنبيه الفائق على خلل الوثائق(رسالة في اختلالات المحاضر والسجلات) للسيد محمود الحنفي الشهير بابن حمزة(1305هـ).
ومن الكتب المطبوعة:
6- المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق لأحمد بن يحي الونشريسي (914) دراسة وتحقيق الأستاذة لطيفه الحسني.
7- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لبرهان الدين ابن فرحون (799هـ).
8- المقنع في علم الشروط، لأحمد بن مغيث الطليطلي (459).
9- علم التوثيق الشرعي، للدكتور عبدالله بن محمد الحجيلي
10- التوثيق والإثبات بالكتابة للدكتور محمد جميل بن مبارك.
11- علم الشروط في الفقه الإسلامي وتطبيقاته في كتابات عدل المملكة، لمحمد بن عبدالله العامر(رسالة ماجستير من جامعة أم القرى عام 1411هـ - وهي غير مطبوعة)
المطلب الثالث: أقسامه التوثيق
ينقسم علم التوثيق إلى أربعة أقسام:
1- التوثيق بالكتابة.
2- التوثيق بالإشهاد.
3- التوثيق بالأعيان وهو الرهن، وهذه الثلاثة دلت عليها آية الدين }يا ايها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم ….وأشهدوا إذا تبايعتم…فلم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة…{.
4- التوثيق بالأشخاص وهو الضمان.
المطلب الرابع: شروط الموثق و آدابه:
الموثق هو كاتب الوثيقة، وحيث إن الوثائق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، من الخطورة والأهمية بمكان، فإن الفقهاء والمشتغلين بهذا الفن قد اشترطوا فيمن ينتدب نفسه للقيام بأمر التوثيق وينتصب له جملة من الشروط واجب توفرها فيه على سبيل اللزوم، ووضعوا جملة من الآداب يتعين أن يتصف بها ويتحلى بقيمها، كما استحب كثير منهم فضلا عن ذلك أمورا لا محيد لموثق عنها.
فبالإضافة إلى تقوى الله تعالى و استحضار النية وإخلاص القصد، بأن يريد بكتابته حفظ أموال الناس وفروجهم ودمائهم. نذكر فيما يلي الشروط الواجب توفرها في الموثق:
1-الإسلام: والجمهور على وجوبه، ولأنه يُحتاج إلى شهادته، بل ربما لم يرد منه التوثيق إلا لأجل الشهادة، ولأنه لا يؤمن الكافر أن يحرف بالكتابة أو يخون، أو يطلع على أسرار المسلمين، قال تعالى: } يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم{ .
2- العدالة: لأنه يحتاج إلى شهادته، فوجب كونه عدلاً، قال الإمام مالك ويشترط في ذاته أن يكون عدلاً مأموناً كما قال تعالى } وليكتب بينكم كاتب بالعدل{.
3- الفقه بعلم الشروط، أي: إتقان صنعة الكتابة، بأن يعرف ما يكتب، وكيف يكتب، ومنها الإحاطة بالأحكام الشرعية المتعلقة بالوثيقة المراد تحريرها، ومن ذلك أن يجب أن يعرف مثلاً عدم جواز شهادة الأصول والفروع لبعضهم، وأن الهبة لابد لها من القبض حتى تتم، وينص عليها في العقد أنه قبلها، والوصية يعلم أنها لا تصح لوارث ..الخ.
4- واشترط بعضهم أن يكون حراً(خلافاً للحنابلة).
واستحب بعضهم فيه عدة أمور أخرى هي:
1- أن يكون مجتنباً للمعاصي
2- أن يكون سميعاً.
3- أن يكون بصيراً.
4- أن يكون متكلماً.
5- أن يكون يقظاً، فلا يترك فراغاً في الوثيقة أو بين الأحرف يمكن أن يزاد فيها.
6- أن يكون سالماً من اللحن.
7- أن يكتب الوثيقة بخط بين يقرأ بسرعة وسهولة وبألفاظ بينة غير محتملة ولا مجهولة،
8- كما استحب بعضهم أن يكون عالماً بلغات الخصوم حتى يكتب عنهم مباشرة دون مترجم.
9- وأن يكون عالماًَ بالحساب ليسهل عليه قسمة المواريث…
10- وأن يجتنب مصاحبة الأراذل والأسافل من الناس.
11- أن يكون عارفا بأحوال البلد الذي يكتب لأهله.
12- أن يكون ورعا عفيفا عن الطمع.
________________________________________
[1] - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266.
[2] - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266؛ ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
[3] - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266، ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
[4] - الصحاح مادة (وثق) 4/1563؛ ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
[5] - الصحاح مادة (وثق) 4/1563؛ وتهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266.
[6] - لسان العرب مادة (وثق) 10/371؛ وتاج العروس مادة (وثق) 7/84.
[center]
لقد جاءت شريعتنا الإسلامية السمحة على نحو تخفف من أخطار التنازع، وتدرأ من مفاسدها، وتعين على معرفة أصحاب الحقوق، لينالوها قضاءً، وتعمل على السداد في المعاملات، إنها طريقة التوثيق التي ندب الشارع إليها بتحريضه على كتابة الدَّين. والإشهاد في سائر المعاملات.
إذ التوثيق يُمَكِّن أصحاب الحقوق من حقوقهم، ويحفظ المال لأهله، ويجنب المتعاقدين من مزالق الحرام، ويصون أعراض الناس، فبه يميز النكاح من السفاح، ويثبت نسب الأبناء إلى آبائهم، وبه يحسم كثير من أسباب الخصومات، وتسد أبواب المنازعات، وهذا فيه ما يضمن للمجتمع سلامته وأمنه واستقراره.
واعتبارا للأهمية البالغة لهذا الفن من العلوم الشريفة، ونظرا لخطورته نجد الشارع الحكيم قد خلد في القرآن الكريم أمرا ساقه في أطول آية على الإطلاق، وهو الأمر بتوثيق الديون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (البقرة: 282).
كما أننا نجد النبي صلى الله عليه وسلم حرص على التوثيق، ووثق الكثير من الرسائل والمبايعات وغيرها، وحث على ذلك وأمر أصحابه أن يوثقوا عقودهم ومعاملاتهم، وكذلك فعلوا ومن سار على دربهم ونهج منهجهم القويم من فحول العلماء وأكابر الفقهاء، حتى شاع التوثيق وصار علماً قائما بذاته له قواعده وشروطه وضوابطه، ومنهجا يضبط أصوله وقواعده الخاصة ممن بذلوا الأوقات، والأنفاس، حتى تأهلوا وبلغوا فيه المعالي…
المطلب الأول: التوثيق: تعريفه وإطلاقاته.
لغة: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: الواو والثاء والقاف: تدل على عقد وإحكام، ووثقت الشيء: أحكمته، والميثاق العهد المحكم، من ذلك قوله تعالى: }فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق{ أي: أحكموا ربطهم لئلا ينفلتوا.
ولذا سميت الوثيقة وثيقة لأنها تحكم ما جرى بين المتعاقدين.
وجاءت لفظة (وَثَقَ) وما اشتق منها على عدة معاني، منها:
1- قال الأزهري: الوَثاقَة: مصدر الشيء الوَثيق المُحكم، والفعل اللازم: وَثُقَ وثاقة فهو وَثيق ([1])
2- والوَثاق: اسم الإيثاق، تقول: أوثقتُهُ إيثاقًا ووَثاقًا، والحبل أو الشيء يُوَثق به: وثاق. والجميع: الوُثُق، منـزلة الرِباط والرُّبُط ([2])
- والوثيقةُ في الأمر: إحكامُهُ والأخذ بالثقَة، والجمع؛: الوَثائق ([3])
- والمَوْثَق والمِيْثَاق: العَهْدُ، والجمع: المواثِيق على الأصل، وفي المحكم: والجمع: المَواثِق ([4])
- والمُواثَقة: المعاهدة ([5])
- والثقَةُ: مصدر قولك: وَثِقَ به يَثِق - بالكسر فيهما - وثاقةُ، وَثِقَة: ائتمنه، وأنا واثق به، وهو مَوثُوق به ([6]) والذي يعنينا في هذا البحث ما كان بمعنى اليمين والمَوْثق والعَهْد المحكم، دون ما سوى ذلك مما يتعلق بهاتين الكلمتين أو اشتقاقهما من معان أخرى. ويسمى كذلك هذا العلم ب:
- علم الشروط: لأنه لا تخلو وثيقة من شروط فيها فأطلق عليه ذلك من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه.
- علم الوثائق أو التوثيق: والوثاق ما يعقد به الشيء ويربط به كالحبل ونحوه، فكذلك الحق الذي في الوثيقة.
- علم الإثبات.أي إثبات الحقوق بين المتعاقدين.
المطلب الثاني : نشأته والمؤلفات فيه
نشأ علم التوثيق منذ العهد الإسلامي، يدل على ذلك قول الله تعالى } يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل…{، وكان r يكتب العهود، والعقود وكانت تكتب أيضا بدقة وتحري للألفاظ.
وأول كتاب النبي r علي رضي الله عنه، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أيضاً يكتبون ويوثقون، فكتب زيد بن أرقم، والعلاء بن عقبة بين الناس في قبائلهم ومياههم.
و كان يكتب المداينات والمعاملات أيضا المغيرة بن شعبة والحصين بن نصر .
وقد كانت مهنة شريفة في التاريخ الإسلامي، قال ابن فرحون: "وهي صناعة جليلة شريفة، وبضاعة عالية متينة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية "، وقال ابن بري: " كفى بعلم الوثائق شرفاً وفخراً انتحال أكابر التابعين لها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكتبونها على عهد النبي".
ومع ذلك فقد كانت الكتابة محدودة وقليلة، وبعد اتساع رقعة الدولة وكثرت التجارات، وبدأت الذمم بالاختلاف نتيجة الاختلاط والتوسع في البلاد، ظهرت الحاجة إلى من يكتب للناس عقودهم ومدايناتهم، فوجد من أهل الصلاح والاحتساب من يكتب ذلك دون أجر، ومن هؤلاء: خارجة بن زيد بن ثابت، وطلحة بن عبدالله بن عوف المسمى بطلحة الندى، الذي تولى القضاء في المدينة، وهو ابن أخ عبد الرحمن بن عوف،.
وفي ظل الوضع القائم احتاج القضاة أيضاً إلى تحديد شهود من أهل العدل الذين يعرفونهم ويثقون فيهم فدونوا أسماءهم في ديوان القضاء لتعتبر شهادتهم، وكانوا كثيري المخالطة للقضاة ورؤية ما يكتبه القاضي حتى تعلموا حرفة الكتابة والتوثيق واتخذوا لهم أماكن خارج مجالس القضاة ليكتبوا للناس ما يحتاجون إلى توثيقه، وكانت لهم دكاكين تسمى بالمصاطب، أو سماط العدول.
وفي بعض البلدان الإسلامية انقسم هؤلاء إلى قسمين:
قسم يتولى تحرير عقود العقارات من البيع والأوقاف والهبات والوصايا وكل ماله صلة بالعقار. وهو ما يشبه الآن كتابة العدل الأولى، والقسم الآخر يقوم بتوثيق عقود النكاح والطلاق، والمعاملات التجارية، والوكالات. وهو ما يشبه الآن كتابة العدل الثانية…
وكثر هؤلاء الكتبة إلى حد أن وصل عددهم بالبصرة في بعض الأوقات إلى ستة وثلاثين ألفا (36000)، وفي مصر: ألف وخمسمائة (1500).
أول من كتب في علم التوثيق (الشروط):
كما قلنا من قبل أن هذا العلم نشأ منذ بداية الإسلام، ولكن من الذي اهتم به ليكون مستقلاً له بحثه وأدواته قيل إن أول من دون فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله (-80-150) وذكروا أن له كتابا يسمى (الشروط).
وقال بعضهم إن أول من كتب فيه هلال بن يحي البصري(245هـ)
أهم المؤلفات في هذا الفن:
وصل عدد المؤلفات فيه إلى أكثر من خمسين مؤلفاً، منها:
1- الشروط والوثائق لمحمد بن أحمد السمرقندي.
2- الوثائق لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي.
3- الشروط والوثائق لأبي إسحاق المروزي الشافعي صاحب المزني.
4- معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام لعلاء الدين علي بن خليل الطرابلسي
5- التنبيه الفائق على خلل الوثائق(رسالة في اختلالات المحاضر والسجلات) للسيد محمود الحنفي الشهير بابن حمزة(1305هـ).
ومن الكتب المطبوعة:
6- المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق لأحمد بن يحي الونشريسي (914) دراسة وتحقيق الأستاذة لطيفه الحسني.
7- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لبرهان الدين ابن فرحون (799هـ).
8- المقنع في علم الشروط، لأحمد بن مغيث الطليطلي (459).
9- علم التوثيق الشرعي، للدكتور عبدالله بن محمد الحجيلي
10- التوثيق والإثبات بالكتابة للدكتور محمد جميل بن مبارك.
11- علم الشروط في الفقه الإسلامي وتطبيقاته في كتابات عدل المملكة، لمحمد بن عبدالله العامر(رسالة ماجستير من جامعة أم القرى عام 1411هـ - وهي غير مطبوعة)
المطلب الثالث: أقسامه التوثيق
ينقسم علم التوثيق إلى أربعة أقسام:
1- التوثيق بالكتابة.
2- التوثيق بالإشهاد.
3- التوثيق بالأعيان وهو الرهن، وهذه الثلاثة دلت عليها آية الدين }يا ايها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم ….وأشهدوا إذا تبايعتم…فلم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة…{.
4- التوثيق بالأشخاص وهو الضمان.
المطلب الرابع: شروط الموثق و آدابه:
الموثق هو كاتب الوثيقة، وحيث إن الوثائق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، من الخطورة والأهمية بمكان، فإن الفقهاء والمشتغلين بهذا الفن قد اشترطوا فيمن ينتدب نفسه للقيام بأمر التوثيق وينتصب له جملة من الشروط واجب توفرها فيه على سبيل اللزوم، ووضعوا جملة من الآداب يتعين أن يتصف بها ويتحلى بقيمها، كما استحب كثير منهم فضلا عن ذلك أمورا لا محيد لموثق عنها.
فبالإضافة إلى تقوى الله تعالى و استحضار النية وإخلاص القصد، بأن يريد بكتابته حفظ أموال الناس وفروجهم ودمائهم. نذكر فيما يلي الشروط الواجب توفرها في الموثق:
1-الإسلام: والجمهور على وجوبه، ولأنه يُحتاج إلى شهادته، بل ربما لم يرد منه التوثيق إلا لأجل الشهادة، ولأنه لا يؤمن الكافر أن يحرف بالكتابة أو يخون، أو يطلع على أسرار المسلمين، قال تعالى: } يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم{ .
2- العدالة: لأنه يحتاج إلى شهادته، فوجب كونه عدلاً، قال الإمام مالك ويشترط في ذاته أن يكون عدلاً مأموناً كما قال تعالى } وليكتب بينكم كاتب بالعدل{.
3- الفقه بعلم الشروط، أي: إتقان صنعة الكتابة، بأن يعرف ما يكتب، وكيف يكتب، ومنها الإحاطة بالأحكام الشرعية المتعلقة بالوثيقة المراد تحريرها، ومن ذلك أن يجب أن يعرف مثلاً عدم جواز شهادة الأصول والفروع لبعضهم، وأن الهبة لابد لها من القبض حتى تتم، وينص عليها في العقد أنه قبلها، والوصية يعلم أنها لا تصح لوارث ..الخ.
4- واشترط بعضهم أن يكون حراً(خلافاً للحنابلة).
واستحب بعضهم فيه عدة أمور أخرى هي:
1- أن يكون مجتنباً للمعاصي
2- أن يكون سميعاً.
3- أن يكون بصيراً.
4- أن يكون متكلماً.
5- أن يكون يقظاً، فلا يترك فراغاً في الوثيقة أو بين الأحرف يمكن أن يزاد فيها.
6- أن يكون سالماً من اللحن.
7- أن يكتب الوثيقة بخط بين يقرأ بسرعة وسهولة وبألفاظ بينة غير محتملة ولا مجهولة،
8- كما استحب بعضهم أن يكون عالماً بلغات الخصوم حتى يكتب عنهم مباشرة دون مترجم.
9- وأن يكون عالماًَ بالحساب ليسهل عليه قسمة المواريث…
10- وأن يجتنب مصاحبة الأراذل والأسافل من الناس.
11- أن يكون عارفا بأحوال البلد الذي يكتب لأهله.
12- أن يكون ورعا عفيفا عن الطمع.
________________________________________
[1] - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266.
[2] - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266؛ ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
[3] - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266، ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
[4] - الصحاح مادة (وثق) 4/1563؛ ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
[5] - الصحاح مادة (وثق) 4/1563؛ وتهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266.
[6] - لسان العرب مادة (وثق) 10/371؛ وتاج العروس مادة (وثق) 7/84.
[center]
الفرضي- عضو نشيط
-
تاريخ التسجيل : 03/08/2012
مواضيع مماثلة
» مقدمة في علم التوثيق-2-
» علم التوثيق
» مقالات في علم التوثيق
» بحث متكامل حول علم التوثيق
» مقدمة حول آيات الأحكام
» علم التوثيق
» مقالات في علم التوثيق
» بحث متكامل حول علم التوثيق
» مقدمة حول آيات الأحكام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى